المادة    
ولذلك ذكر عن بعض الصالحين أنه ابتلي بالجذام، (فقيل له: بلغنا أنك تعرف اسم الله الأعظم، فلو سألت الله أن يكشف ما بك، فقال: يا ابن أخي! إنه هو الذي ابتلاني، وأنا أكره أن أراده) فهذا يحمل على هذا المحمل أيضاً.
  1. ترك إبراهيم التيمي للدعاء عند حبس الحجاج له

    (وقيل لـإبراهيم التيمي وهو في سجن الحجاج : لو دعوت الله تعالى) وإبراهيم التيمي رضي الله تعالى عنه كان من أكثر التابعين عبادة وفضلاً، فيرجى أن يستجاب له، فطلبوا منه أن يدعو الله أن يفكه من أسر هذا الظالم الباطش الحجاج، (فقال: [أكره أن أدعو أن يفرج عني ما لي فيه أجر] ).
    فهو يقول: أنا أرى أن أجري واحتسابي هو في سجن هذا الظالم الفاجر الجبار الذي فعل ما فعل بخيار خلق الله في أيامه، وهذا خير لي من أن أطلق، وهذه من الأمور التي لا يدركها كثير من الناس ممن همه الدنيا فقط، فيظن أن غاية ما في الأمر أن يخرج من سجن الدنيا فقط، وهذا غير صحيح؛ لأن الحقيقة: أن العبودية هي عبودية القلب، والرق هو رق القلب، والأسر هو أسر القلب، فـإبراهيم رحمه الله لو أنه خرج فلربما ظل ملاحقاً، فيظل خائفاً أن يرجع، وأما الآن فهو في السجن وانتهى، فهو مطمئن، ويحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى، وجنته في صدره كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، فيذكر الله، ويحتسب الأجر حتى يفرج الله عنه هذا الهم.
    ولذلك كان السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم يدركون ما لا يدركه من بعدهم؛ ولا سيما من كانت نظرته نظرة أهل الدنيا البحتة.
  2. ترك سعيد بن جبير للدعاء عند قتله

    ومثله زميله ونظيره سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه، فقد قتله الحجاج ظلماً وعدواناً، قال: (فقد صبر على أذى الحجاج حتى قتله، وكان مجاب الدعوة) حتى إنه كان له ديك يقوم بالليل فيصيح -أي: يؤذن في الليل- فلم يقم في ليلة من الليالي ولم يؤذن، فلم يقم سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه إلى الصلاة، فقال: [ما له قطع الله صوته، قالوا: فما أذن الديك بعدها أبداً، فقالت له أمه: يا بني! لا تدع بعد هذا على شيء؛ لأنه إذا دعا على شيء وقع الدعاء].
    وقد بعث الحجاج في طلبه إلى مكة، فلو أنه -وهذا حاله- دعا الله لأفلت من عيون الحجاج ومن جواسيسه، أو لو أنه إذ قبض عليه دعا الله أن يفلت منه لما قتله، لكنه لم يفعل ذلك، واحتسب وصبر، ودعا الله تعالى دعوة عظيمة، فقال: [اللهم لا تمكنه من أحد بعدي]، ففدى المؤمنين بنفسه، فاستحيا أن يدعو الله ألا يمكنه من نفسه، ولكنه قال: أنا أمام الشهادة، لكنه أشفق على إخوانه المسلمين فقال: [اللهم لا تمكنه من أحد من بعدي]، فقتله الحجاج ، فلم يعش الحجاج بعده إلا بضع عشرة ليلة ثم هلك، ولم يقتل بعده أحداً، فاستجاب الله تعالى دعاءه، وكذلك يجيب الله دعاء عباده المؤمنين.
  3. ضيق العيش عند السلف وتعاملهم معه

    قال: (وكان حيوة بن شريح ضيق العيش جداً) وهذه هي حالة السلف على ما فيهم من عبادة، ومن إجابة دعاء، وكان من الواضح جداً في حياتهم الفقر، وضيق وشظف العيش، حتى إن الواحد منهم لا يجد ما يأكل، ولا يجد ما يطعم أهله، ولا يجد ما يقري به ضيفه، ومع ذلك صبروا على الدنيا، وتحملوا هذا، وأما نحن في هذا الزمان فقد أتخمنا من الشبع والترف والنعمة، والحمد لله، ولو انقطع شيء عنا لكان القنوط والجزع منا، نسأل الله العفو والعافية.
    فإذا تتبعت حياة العلماء وقرأت سيرهم فإنك تجد من أجلى الأمور في حياتهم الفقر والحاجة، وليس حاجتهم أن تكون عندهم الملايين، أو البحث عن الترف كما مر معنا، وإنما كانوا محتاجين إلى أن يأكلوا في ذلك اليوم فقط، ويريدون ماء يشربونه في ذلك اليوم، فكانوا يعانون من الفقر، ويعانون من الجوع.
    وخير خلق الله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الإمام والقدوة في هذا، فإنه كان صلى الله عليه وسلم يعصب الحجر على بطنه من الجوع، وحدث في أيامه ما يطول ذكره من الجوع، وفي زمن الصحابة؛ ومع ذلك كانوا صابرين محتسبين الأجر في هذا، ولا عجب أن يكون هذا في أول الإسلام، فإن الجوع كان عاماً، والحاجة كانت عامة، لكن منذ أن فتح الله تبارك وتعالى الفتوح في أواخر أيام أبي بكر ، ثم في أيام عمر ، ثم اشتد ذلك في أيام عثمان رضي الله تعالى عنه فما بعده؛ أغنى الله تعالى هذه الأمة، حتى بلغ دخل الفرد فيها أعلى دخل يمكن أن يكون في العالم؛ من الفتوحات التي فتحها الله تعالى عليهم.
    وفي أيام عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه كان عماله يطوفون بالصدقة فلا يجدون من يأخذها، فكانت الأمة في حالة ترف، وفي حالة شبع، ومع ذلك كان كثير من العلماء والعباد من السلف في حالة فقر، من التابعين وتابعيهم؛ حكمة من الله تبارك وتعالى وإعراضاً منهم عن الدنيا، ولم يكونوا يسألون الدنيا أو يحرصون على طلبها.
    وكان منهم: حيوة بن شريح رضي الله عنه، (فقيل له: لو دعوت الله أن يوسع عليك) في الدنيا، فهم يرون أنه مجاب الدعوة، فأراد أن يريهم أنه صابر رضي الله تعالى عنه؛ (فأخذ حصاة من الأرض فقال: [ اللهم اجعلها ذهباً، فانقلبت في يده تبراً -أي: ذهباً نقياً-، وقال: ما خير في الدنيا إلا الآخرة ]، ثم قال: [ هو أعلم بما يصلح عباده ] )، أي: أن هذه الدنيا لا خير فيها إلا ما قرب إلى الآخرة، فلو كنت أريد المال والذهب لسألت الله فأعطاني وأغناني، ولكنه يريد أن يقول لهم: أنا صابر ومحتسب، فإن قليل الدنيا خير من كثيرها في نظري، فهذا الذي يصلحني، والله أعلم بما يصلح عباده، كما قال الله تبارك وتعالى: (( وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ ))[الشورى:27]، وقد كان كثير من الناس في خير وفي صلاح، فلما فتحت لهم الدنيا بغوا في الأرض وطغوا، واستخدموا المال فيما يقربهم من النار، ويباعدهم من الجنة والعياذ بالله، فمثل هؤلاء لا يصلح لهم إلا الفقر، ولو أراد الله تعالى بهم خيراً لظلوا فقراء، ولبقوا على فقرهم وحاجتهم، كما أن من عباد الله من لا يصلحه إلا الغنى، ولذلك يعطيهم الله عز وجل، ولو افتقروا لقنطوا أو ضجروا.
  4. لزوم استجابة دعاء الولي واختيار الله لعبده

    قال: (وربما دعا المؤمن المجاب الدعوة بما يعلم الله الخيرة له في غيره). وهذا ملحظ آخر مهم وهو: هل من شرط كون الرجل ولياً لله أن يستجاب له، ويعطى ما يريد، وقد وعد الله تبارك وتعالى أولياءه: ( ولئن سألني لأعطينه )، أم أن هناك حكمة أخرى؟
    فالشيخ هنا يقول: لا يشترط ذلك، فقد يدعو المؤمن المجاب الدعوة الله تعالى في أمر، والله تعالى يجعل الخيرة له في غير ما دعا.
    قال: (فهو لا يجيبه إلى ما طلب، ولكن يعوضه مما هو خير له إما في الدنيا، وإما في الآخرة) إذاً: الدعاء مطلوب، وصاحبه مثاب مأجور، وطلبه عند الله تبارك وتعالى غير مردود، لكن لا يشترط أن يجاب كما رأينا في الأمثلة السابقة، فقد يدعو والله تبارك وتعالى يحول الدعاء إلى ما فيه الخير له في عاجل أمره أو في آجله.
    يقول: (وقد تقدم في حديث أنس المرفوع: ( إن الله يقول: إن من عبادي من يسألني باباً من العبادة فأكفه؛ كيلا يدخله العجب ) )، هذا إذا كان في العبادة فما بالك بشيء آخر! وهذا الحديث نحتاج إلى أن نتأكد من صحته. فالعبادة أفضل ما يتقرب به إلى الله، فما خلقنا إلا لها، فقد يكون الرجل من أهل الصلاة، أو من أهل القرآن، أو من أهل الذكر، أو من أهل بر الوالدين، أو من أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو قائم بحق الله في هذه الأمور، لكنه لو دعا الله أن يجعله من أهل الجهاد واستجاب الله له، وكان مجاهداً، وظهر صيته في الأمة، وانتشر عنه ذلك؛ قد يدخله العجب، ويغتر بعمله، فيحبط عمله، ويفسد كله: جهاده وصلاته وكل ما عنده، فمن رحمة الله ألا ينال ذلك؛ ولو كان عبادة وطاعة لله، فإذا كان هذا فيما هو طاعة فكيف إذا دعا الله أن يعطيه مالاً، أو منصباً، أو جاهاً! وقد يعاهد الله: (( لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ))[التوبة:75]، لكن بعد ذلك قد يكون: (( فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ ))[التوبة:76]، والعياذ بالله، فيكون البخل، ويكون التولي والإعراض.
    إذاً فأنت لا تدري أين الخير لك، وقد يمنع الله تعالى حتى من العبادة والطاعة، وقد يصرف ذلك عن الإنسان؛ لخير أراده الله عز وجل له، وهذا يذكرنا بحديث محاجة آدم و موسى عليهما السلام، فإذا كان ترك الطاعة أو فعل المعصية فلا بأس أن يحتج بالقدر؛ إذا أنزلها العبد منزلة المصيبة، ولا حرج في ذلك، بل قد يؤجر عليه، فأنت إذا ذهبت مع مجموعة من إخوانك طلبة العلم فأردت أن تطلب العلم، وتحفظ القرآن، وتحفظ الحديث، وتفتي الناس، وينفع الله بك ما شاء من خلقه، فعرض لك عارض، أو انقطعت ولم تفعل ذلك، ثم بعد حين من الزمن ذكرت ذلك، فأحلت إلى القدر فقلت: قدر الله، وهذا أمر كتبه الله علي، فنقول: هذا لا حرج فيه؛ لأنه ليس احتجاجاً بالقدر على المعصية، وإنما هو احتجاج بالقدر على المصيبة، فأنت تشعر بالمصيبة، لكن لا تستشعرها قنوطاً وجزعاً، وما يدريك أنك لو أصبحت قارئاً أو عالماً لفتنت بالشهرة، وبالناس، وبالثناء، وبالتعظيم، فبقاؤك على هذه الحالة خير لك، وأحفظ لدينك، فأنت في هذا أتقى لربك، وأقرب من ذلك.
    فيكون الله تعالى قد منع منك ذلك وهو خير، وهو عبادة في نظرك، ولا شك أن العلم أفضل مثلاً، وأن الله تعالى ذكر من دعاء عباد الرحمن (( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ))[الفرقان:74]، وأن تبعث مع العلماء وغير ذلك، لكنه حرمك هذا الخير لعلمه بمآلات الأمور.
    وقد ضرب الله تبارك وتعالى المثل بذلك الرجل فقال سبحانه: (( آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ ))[الأعراف:175-176]، فهذا أسوأ ما يمكن أن تتخيله من الأمثلة، فهذه حالة مقززة للنفس، فهذا الرجل لو حرم العلم، ولو لم يؤت آيات الله، ولو بقي عابداً فلاحاً يفلح الأرض، أو طباخاً، أو بقالاً أو ما أشبه ذلك لكان خيراً له في دينه من أن يكون ممن حمل آيات الله وأصبح يشار إليه بالبنان، ثم انتكس واشترى الدنيا والعياذ بالله، وأعرض عن الآخرة.
    إذاً: ففي هذه الحالة لا يغضبن إنسان، ولا يألمن ولا يحزنن أن قدر الله تعالى عليه أمراً، وصرف عنه أمراً آخر، وليفوض ذلك كله إلى الله عز وجل.
    (وخرج الطبراني من حديث سالم بن أبي الجعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن من أمتي من لو جاء أحدكم يسأله ديناراً لم يعطه، ولو سأله درهماً لم يعطه، ولو سأله فلساً لم يعطه، ولو سأل الله الجنة لأعطاه إياها، ذو طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره )، قال: وخرجه غيره من حديث سالم مرسلاً، وزاد فيه: ( ولو سأل الله شيئاً من الدنيا ما أعطاه تكرمة له ) ).
    يعني: أن من عباد الله من لو جاء إلى أحد الخلق وطلبه ديناراً أو درهماً أو فلساً لم يعطه، أي: أن تقول له: أنا لا أعطيك، أو ما عندي لك شيء؛ احتقاراً وازدراء، وهذا الرجل الذي يرده الناس لو سأل الله الجنة لأعطاه ذلك، ( ولو أقسم على الله لأبره )، فمنع من ذلك رحمة من الله عز وجل، ليس الأمر كما يظن بعض الناس، وإنما لله عز وجل حكم لا يعلمها خلقه، ولكن يرون آثارها، فكثير من الناس ربما رأى أثر ذلك فيما بعد، وربما لامس فائدتها، والبعض قد يخفى عليه.
  5. اختيار الله العلم لأبي يوسف وفراسة شيخه فيه

    فعندما كان أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة رضي الله تعالى عنهما صبياً صغيراً؛ كان يتيماً، فدفعت به أمه إلى بقال يعمل عنده في المحل، فكان يهرب من المحل ويذهب إلى أبي حنيفة يطلب الفقه، فشكا ذلك البقال أبا يوسف إلى أمه فكانت الأم ترد الطفل إلى المحل، وهو يذهب إلى طلب العلم، فقال لها الرجل البقال: إنما أفسده أبو حنيفة ، فذهبت الأم إلى أبي حنيفة وقالت له: يا أبا حنيفة ! إن هذا طفلي وليس لي غيره، ولا آكل أنا وعيالي إلا من كده، فدعه يعمل في المحل، فضحك أبو حنيفة وقال لها: يا أمة الله! إن ابنك هذا لو تركتيه يطلب العلم لجاء يوم وهو يأكل اللوز بدهن الفستق، وهذا الشيء لا يأكله إلا ملوك العجم في تلك الأيام، وبعد مرور الأيام أصبح أبو يوسف كبير القضاة في الدولة كلها، فكان جالساً مع هارون الرشيد ، فأتي بأكل فأعجبه، فقال: ما هذا؟ قال: هذا لوز بدهن الفستق، فبكى أبو يوسف ، فقال هارون : ما يبكيك؟ فذكر له ما قاله أبو حنيفة لأمه وهو صغير.
    فلو نظرنا إلى الأمد القريب لكان قول أمه خيراً له ولهم، لكن الله تبارك وتعالى يريد أن يكون له شأن، ويريد أن يجعل له ما هو خير وأفضل من ذلك.
    إذاً لو أن الله تعالى وكل أمورنا وتدبيرنا إلى أنفسنا لكانت حياتنا عجيبة جداً؛ لأن ابن آدم نظره محدود، وتفكيره محدود حتى مع نفسه، ولو فكر كثير من الناس لوجد أن خيرة الله له أفضل من اختياره لنفسه.
  6. الاجتهاد في الدعاء مع الرضا بالقدر

    وليس معنى هذا أنك لا تختار، اجتهد في الخير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( استعن بالله ولا تعجز ).
    وقال: ( احرص على ما ينفعك ) أي: اجتهد في أي شيء ينفعك، لكن إذا أصابك شيء فقل: قدر الله وما شاء فعل، ولا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا، واعلم أن الخيرة فيما اختار الله عز وجل، فرب وظيفة كانت موبقة لصاحبها في الدنيا والآخرة، ورب زوجة كانت شراً وأضر على زوجها من ألد أعدائه، ورب ولد يطمع أن يناله أو يرزقه؛ فيكون عدواً له في هذه الدنيا؛ حتى يصبح أعظم أمنية عنده: أن هذا الولد يموت والعياذ بالله، فهذه الدنيا قد تكون عذاباً لأهلها، (( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ))[التوبة:55]، فيعذبهم بأمنيتهم التي كدحوا من أجلها واجتهدوا وتعبوا فيها.
    إذاً: فما دام الأمر كذلك فلتحمد الله تعالى على كل حال، وأن تسلم لقدر الله، وترضى به، فهذه هي حقيقة الرضا، ولا ينافي ذلك الدعاء، بل ندعو الله تبارك وتعالى في كل أمر، وندعوه في كل شأن، ولكن نعلم أن فيما يختاره الله لنا الخير، كما قال بعض السلف: [ لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع ]، فأي شيء يقع بك فأنت تقول: هذا لا أطيقه، ولا أرضاه، ولا أتحمله، ولو اطلعت على الغيب لقلت: أفضل شيء هو هذا، وأنا أريد هذا لا أريد غيره، ولكن هذا الضجر بسبب ضيق نظر الناس، وهذا ليس خاصاً بالناس البعيدين عن الله، بل إن كل البشر يعرض لهم هذا.
    فالصحابة رضي الله تعالى عنهم -وهم أفضل الخلق بعد الأنبياء- شق عليهم ما حصل مشقة عظيمة، فكانوا يقولون: ( كيف يا رسول الله؟! ألسنا المؤمنين؟ وأليسوا المشركين؟ كيف نعطي الدنية في ديننا؟ ) ألم تعدنا أن ندخل البيت، وأن نطوف؟ ووجدوا ذلك أمراً شاقاً عليهم؛ خاصة لما رأوا إخوانهم المؤمنين كـأبي جندل ومن معه يسلمون للمشركين؛ تنفيذاً لبنود الاتفاق، لكن بعد ذلك كانت العاقبة لهم، وكان ذلك هو الخير، فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ))[الفتح:1]، فكان الفتح المبين هو ما كان في يوم الحديبية ، وعادوا وهم عشرة أضعافهم بعد ذلك ودخلوا مكة ، ولما خرجوا من مكة إلى هوازن كانوا عشرة أضعاف عام الحديبية.
    إذاً: فلو كان الأمر كما نختار نحن فإننا نخطئ حتى في ديننا، ولو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع، فما اختاره الله تعالى هو الخير، وهو الأفضل لنا.
    فلذلك على العبد -سواء كان في أمر دينه أو في أمر دنياه- أن يكثر من دعاء الله، ولا يمل من الدعاء، وأن يرضى بالقضاء، ثم بعد هذا إذا حصل له ما يكره فلا يقنط من رحمة الله، ولا يجزع مما أصابه، وليعلم أن هذا أصابه هو الخير له، وأن الله تبارك وتعالى اختار له ما هو خير مما لو اختار هو لنفسه.
    وفي الأخير نقول: يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث الصحيح: (إن الله يستجيب دعاء العبد ما لم يعجل، قالوا: وكيف يعجل يا رسول الله؟! قال: يقول: دعوت الله فلم يستجب لي، فيتوقف عن دعائه)، فالاستعجال في الدعاء من أسباب عدم قبول الدعاء؛ لأن الله تبارك وتعالى يريد منا دوام العبودية، ومن دوام العبودية دوام الدعاء، فلا ينبغي لعبد أن يعجل في الدعاء، بل يتريث ويستمر في الدعاء، والله تبارك وتعالى سوف يستجيب له ولو بعد حين، وربما يعوضه في الآخرة، وربما يعوضه شيئاً غير ذلك في الدنيا، وربما يعطيه ما طلب أو ما سأل في هذه الدنيا، فالمهم ألا يعجل، فهذا من أهم شروط الدعاء، وكل منا يتمنى ويرجو دائماً أن يجاب دعاؤه.
    والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.